نجيب محفوظ الأستاذ والمعلم، ولسان البلاغة الأدبية ومرونة الحدث وأصالته.. أستاذ الفلسفة الذي عاش معنياً بطرح الحكايات بمنتهى الحيادية، لتتكفل هذه الحكايات بطرح التساؤلات الفلسفية، لنرى بصمته في الحدث وشخوصه، وتقع كلماته على مسامعنا موقعاً مألوفاً فنقول ونحن أهل ليقين لا نعزله أبداً ولا يعزلنا: “هذا عمنا نجيب محفوظ”.
“أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولهما عمره سبعة آلاف سنة وهو الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمره ألف وأربعمائة سنة وهو الحضارة الإسلامية. ولعلى لست في حاجة إلى تعريف بأي من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن في مقام النجوى والتعارف”.. بهذه الكلمات استهل الأستاذ الكبير نجيب محفوظ رسالته الملقاة أمام اللجنة والحضور في حفل توزيع جائزة نوبل 1988 ..
الكلمات ــ السابق ذكرها ــ على الرغم من كونها آتية في نهايات مسيرته المهنية إلا أنها تعد مدخلاً حياً يطل منه كل راغب في أن يلقي نظرة على أعمال.. ولتكتمل الصورة نسبياً نلقي نظرة أخرى على رسالته، فننتقي منها كلمة مكملة للأولى حرص الأستاذ نجيب محفوظ على أن يجعلها آتية في مرحلة متأخرة من الرسالة، فيقول: “قدر لي يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين. وأن أرضع لبنيهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ومن وحى ذلك كله بالإضافة إلى شجوني الخاصة- ندت عنى كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادي بجائزة نوبل الكبرى. فالشكر أقدمه لها باسمي وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسي الحضارتين”.. تأتي هذه الكلمة من الأستاذ وهي موجهة بصورة واضحة للغرباء الذين تجهموا حين سمعوا اسمه للمرة الأولى، فيقول لهم أنا لست غريب عنكم وعن حضارتكم وثقافتكم، بل عشت اضطلع عليها دون أن أتحلل أو أتنصل من ثقافتي وحضارتي.
ميلاد نجيب محفوظ ونشأته
هو نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا.. ولد في القاهرة بحي الجمالية العريق
11 ديسمبر 1911 .. لما قامت ثورة 1919 كان في الثامنة من عمره إلا أنه استطاع أن يؤرخ
لها بصورة رائعة في رواية بين القصرين أول روايات الثلاثية.
عام 1930 التحق بجامعة القاهرة.. وتخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة، وقرر أن يكون
موضوع رسالة الماجستير “الجمال في الفلسفة الإسلامية” ثم عدل رؤيته، وقرر أن يمنح
الأدب كل وقته ومجهوده.
والده عبد العزيز إبراهيم أحمد كان صديقاً شخصياً للمويلحي كاتب «حديث عيسى بن هشام»
الكتاب الذي اعتبره كثيرون أول رواية عربية بغض النظر عن كل ما سبقه من محاولات غير
مكتملة، أو لم تتبلور فيها كينونة الرواية بعناصرها وشخوصها على حدٍ سواء.
نجيب محفوظ في سنواته الأولى
سعيد جودة السحار صاحب مكتبة مصر التي كانت تنشر أعمال الأستاذ نجيب كانت له كلمة
حرص على أن يجعلها تتزيل أعمال الأستاذ نجيب لسنوات، وفي كلمة سعيد السحار…
تعرفت بالأستاذ نجيب محفوظ – أول معرفتي به – سنة 1943 ذلك أن شقيقي الأديب الراحل عبد
الحميد جودة السحار، حضر إليّ في المكتبة التي أملكها – مكتبة مصر بالفجالة – وبصحبته شاب
في مثل سنِّه، في حوالي الثلاثين من عمره، وقدمه إليّ باسمه “نجيب محفوظ”، وقال لي: إنه
يحمل معه رواية من تأليفه يرجو أن أقوم بطبعها ونشرها له.
وقدم إليّ نجيب محفوظ روايته «رادوبيس»، وهي ليست أول رواية يكتبها؛ فقد كتب قبلها رواية
«عبث الأقدار» ، وكان قد طبعها ونشرها له الأستاذ سلامة موسى.
أخذت منه الرواية، ووعدت أن أبدي فيها رأيي بعد يومين.
مولد روائي عظيم
وقرأت رواية «رادوبيس» فذهلت! فهي مكتوبة بلغة عربية رصينة وبليغة، وتختلف عن كل الروايات
العربية التي ظهرت حتى ذلك الوقت، فحوادثها شائقة، محبوكة بمهارة عجيبة وأستاذية مقتدرة،
وتحكي قصة غرام الفرعون، أو الملك مرنرع الثاني بالراقصة الفاتنة رادوبيس، واستيلائه على
أملاك المعابد وأموال الكهنة، وإنفاقها على نزواته الخاصة في بذخ شديد، حتى أطلق عليه
الشعب لقب «الملك العابث». وقد انتهت الرواية بقتل الملك بسهم أطلقه عليه أحدُ أفراد
الشعب.
والشيء بالشيء يُذكَر؛ فقد رأي أعوان الملك فاروق ــ فيما بعد ــ أن بالرواية تعريضاً مقصوداً
بالملك فاروق، حيث كان الشعب في مصر يطلق عليه كذلك لقب «الملك العابث» ، وأن فيها
دعوة للخلاص منه بقتله.
لا يوجد ورق لطباعة رواية!
يقول سعيد السحار : “ولما حضر نجيب محفوظ ليعرف رأيي في الوراية، ابديت له استعدادي،
بل وترحيبي بطبعها ونشرها.
واعترضتني عندئذ مشكلة الحصول على الورق الذي تطبع عليه الرواية، فقد كانت الحرب العالمية
الثانية في عنفوانها، والورق معدوم تماماً من السوق.
ومهما يكن من أمر، فقد حصلت على كمية من الورق من الجيش البريطاني، وطبعت عليه الرواية
ــ 500 نسخة فقط ــ بناء على نصيحة نجيب محفوظ، الذي كان يخشى أن يعرضني للخسارة،
بألا تستوعب السوق عدداً أكبر.
وأخيراً وضعَت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وساد السلام، ونشرنا لنجيب محفوظ روايات وقصص
همس الجنون، كفاح طيبة، خان الخليلي، القاهرة الجديدة، زقاق المدق، السراب، بداية ونهاية،
طبعنا منها أعداداً تتراوح بين خمسة آلاف وعشرة آلاف. وقد أعيد طبع كل منها حتى الآن ست
عشرة طبعة أو يزيد”.
ثلاثية نجيب محفوظ
يكمل الأستاذ سعيد جودة السحار: “كان يوم من سنة 1956 م، إذ فوجئت بنجيب محفوظ يحضر
إلى المكتبة يحمل على ذراعه كمية ضخمة من الأوراق ــ أكثر من ألف فرخ فولسكاب ــ وطلب
مني أن أطبعها وأنشرها له في كتاب واحد.
وكانت هذه الأوراق تحتوي على ثلاثية نجيب محفوظ.
وكان نجيب محفوظ قد عرض الثلاثية على الدكتور طه حسين ليقرأها ويبدي رأيه فيها، فنشر
عنها بحثاً مطولاً في جريدة الأهرام، بشَّر فيه بمولد روائي كبير في الأدب العربي، بل مولد رائد
فن كتابة الرواية العربية الحديثة.
وكان رأيي أن طبع الرواية في كتاب واحد، يحدّ من بيعها على نطاق واسع، واقترحت أن تطبع في
ثلاثة أجزاء، فوافق نجيب على رأيي.
وفعلاً ظهرت الثلاثية في ثلاثة كتب هي: بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية.
وبظهور هذه الكتب اتسعت شهرة نجيب محفوظ كأعظم روائي في مصر، بل في العالم العربي
كله.
وتنحصر عبقرية نجيب محفوظ في أن شخصيات قصصه ورواياته هي من واقع الحياة في الأحياء
الشعبية بخاصة، التي عاش طفولته يرتع بين ربوعها، وقضى فترات كثيرة من شبابه وكهولته وهو
يتردد على شوارعها وحاراتها وأزقتها، يعاشر ناسها.. يكلمهم ويستمع إليهم، وفي نفس الوقت
يغوص في أعماقهم ويدرس طباعهم، ثم يصور ما ينطبع في نفسه من كل ذلك في كتاباته.
وعن كتابات نجيب محفوظ تتميز بميزة فريدة، فهو يصغي بإمعان إلى كل من يحادثه، ويهتم بكل
ما يُروَى أمامه، سواء كان حكاية غريبة، أو قولاً طريفاً، أو نكتة ظريفة، فيحفظ ذلك في ذاكرته
جيداً، حتى إذا عاد إلى منزله أسرع بتدوينه حتى لا يضيع منه أو ينساه، ثم يفيد منه بعد ذلك
في كتاباته، حيث يظهر في المكان والزمان المناسبين له.
وبعد الثلاثية تلا حصاد وافر من القصص والروايات، ولا يزال نجيب محفوظ ــ مدًّ الله في عمره ــ
يتدفق عطاؤه للمكتبة العربية”.
كلمة سعيد السحار عن جائزة نوبل
ويختم سعيد السحار كلامه بقوله:
“إن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل العالمية في الآداب هو اعتراف بقيمة الأدب العربي بين الآداب العالمية، ولو أن هذا التقدير جاء متأخراً عن موعده خمسة وعشرين سنة”.
المصادر: internet movie database
اقرأ أيضاً…
مجدي يعقوب ــ جراح بدرجة سفير ــ تكريمه وجوائز حصل عليها
توت عنخ آمون الملـك صاحـب اللعنـات.. حـكم طـفلاً، ومـات شابـاً